كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي تفسير ابن كثير: وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير- من طرق- عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه. ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي المدينة- وكان رئيسًا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم- فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: «بلى! إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم: فذلك عبادتهم إياهم...».
وقال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا} أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ.
وقال الألوسي في التفسير:
الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم. بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم..
ومن النص القرآني الواضح الدلالة؛ ومن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فصل الخطاب، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار.
أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم.. ومع هذا فقد حكم الله سبحانه عليهم بالشرك في هذه الآية- وبالكفر في آية تالية في السياق- لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها.. فهذا وحده- دون الاعتقاد والشعائر- يكفي لاعتبار من يفعله مشركًا بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين.
أن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقادًا وقدموا إليه الشعائر في العبادة. فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركًا بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين..
أن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده؛ ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته؛ ولا تقديم الشعائر التعبدية له.
كما هو واضح من الفقرة السابقة.. ولكنا إنما نزيدها هنا بيانًا!
وهذه الحقائق- وإن كان المقصود الأول بها في السياق هو مواجهة الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك من التردد والتهيب للمعركة مع الروم، وجلاء شبهة أنهم مؤمنون بالله لأنهم أهل كتاب- هي كذلك حقائق مطلقة تفيدنا في تقرير حقيقة الدين عامة..
إن دين الحق الذي لا يقبل الله من الناس كلهم دينًا غيره هو الإسلام والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة- بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده- فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله- مهما كانت دعواهم في الإيمان- لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله، بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم، لا طاقة لهم بدفعه، وأنهم لا يقرون هذا الافتئات على الله..
إن مصطلح الدين قد انحسر في نفوس الناس اليوم، حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير، وشعائر تعبدية تقام! وهذا ما كان عليه اليهود الذين يقرر هذا النص المحكم- ويقرر تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنهم لم يكونوا يؤمنون بالله، وأنهم أشركوا به، وأنهم خالفوا عن أمره بألا يعبدوا إلا إلهًا واحدًا، وأنهم اتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله.
إن المعنى الأول للدين هو الدينونة- أي الخضوع والاستسلام والاتباع- وهذا يتجلى في اتباع الشرائع كما يتجلى في تقديم الشعائر. والأمر جد لا يقبل هذا التميع في اعتبار من يتبعون شرائع غير الله- دون إنكار منهم يثبتون به عدم الرضا عن الافتئات على سلطان الله- مؤمنين بالله، مسلمين، لمجرد أنهم يعتقدون بألوهية الله سبحانه ويقدمون له وحده الشعائر.. وهذا التميع هو أخطر ما يعانيه هذا الدين في هذه الحقبة من التاريخ؛ وهو أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه؛ الذين يحرصون على تثبيت لافتة الإسلام على أوضاع، وعلى أشخاص، يقرر الله سبحانه في أمثالهم أنهم مشركون لا يدينون دين الحق، وأنهم يتخذون أربابًا من دون الله.. وإذا كان أعداء هذا الدين يحرصون على تثبيت لافتة الإسلام على تلك الأوضاع وهؤلاء الأشخاص؛ فواجب حماة هذا الدين أن ينزعوا هذه اللافتات الخادعة؛ وأن يكشفوا ما تحتها من شرك وكفر واتخاذ أرباب من دون الله..
{وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
ثم يمضي السياق خطوة أخرى في تحريض المؤمنين على القتال: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
إن أهل الكتاب هؤلاء لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق، وعبادة أرباب من دون الله. وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر- وفق المفهوم الصحيح للإيمان بالله واليوم الآخر- إنما هم كذلك يعلنون الحرب على دين الحق؛ ويريدون إطفاء نور الله في الأرض المتمثل في هذا الدين، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر..
{يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم}.
فهم محاربون لنور الله. سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن؛ أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله، والوقوف سدًا في وجهه- كما كان هو الواقع الذي تواجهه هذه النصوص وكما هو الواقع على مدار التاريخ.
وهذا التقرير- وإن كان يراد به استجاشة قلوب المسلمين إذا ذاك- هو كذلك يصور طبيعة الموقف الدائم لأهل الكتاب من نور الله المتمثل في دينه الحق الذي يهدي الناس بنور الله.
{ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}.
وهو الوعد الحق من الله، الدال على سنته التي لا تتبدل، في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون..
وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا؛ فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق على المشقة واللأواء في الطريق؛ وعلى الكيد والحرب من الكافرين (والمراد بهم هنا هم أهل الكتاب السابق ذكرهم).. كما أنه يتضمن في ثناياه الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان!
ويزيد السياق هذا الوعيد وذلك الوعد توكيدًا: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
وفي هذا النص يتبين أن المراد بدين الحق الذي سبق في قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}. هو هذا الدين الذي أرسل الله به رسوله الأخير. وأن الذين لا يدينون بهذا الدين هم الذين يشملهم الأمر بالقتال..
وهذا صحيح على أي وجه أوّلنا الآية. فالمقصود إجمالًا بدين الحق هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع- وهذه هي قاعدة دين الله كله، وهو الدين الممثل أخيرًا فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم- فأيما شخص أو قوم لم يدينوا لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع مجتمعة؛ انطبق عليهم أنهم لا يدينون دين الحق، ودخلوا في مدلول آية القتال.
مع مراعاة طبيعة المنهج الحركي للإسلام، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة كما قلنا مرارًا.
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
وهذا توكيد لوعد الله الأول: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}. ولكن في صورة أكثر تحديدًا. فنور الله الذي قرر سبحانه أن يتمه، هو دين الحق الذي أرسل به رسوله ليظهره على الدين كله.
ودين الحق- كما أسلفنا- هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والعبادة والتشريع مجتمعة. وهو متمثل في كل دين سماوي جاء به رسول من قبل. ولا يدخل فيه طبعًا تلك الديانات المحرفة المشوهة المشوبة بالوثنيات في الاعتقاد التي عليها اليهود والنصارى اليوم. كما لا تدخل فيه الأنظمة والأوضاع التي ترفع لافتة الدين، وهي تقيم في الأرض أربابًا يعبدها الناس من دون الله، في صورة الاتباع للشرائع التي لم ينزلها الله.
والله سبحانه يقول: إنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.. ويجب أن نفهم {الدين} بمدلوله الواسع الذي بيناه، لندرك أبعاد هذا الوعد الإلهي ومداه..
إن {الدين} هو الدينونة فيدخل فيه كل منهج وكل مذهب وكل نظام يدين الناس له بالطاعة والاتباع والولاء..
والله سبحانه يعلن قضاءه بظهور دين الحق الذي أرسل به رسوله على {الدين} كله بهذا المدلول الشامل العالم!
إن الدينونة ستكون لله وحده. والظهور سيكون للمنهج الذي تتمثل فيه الدينونة لله وحده.
ولقد تحقق هذا مرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه ومن جاء بعدهم فترة طويلة من الزمان. وكان دين الحق أظهر وأغلب؛ وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة لله تخاف وترجف! ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه؛ خطوة فخطوة بفعل عوامل داخلة في تركيب المجتمعات الإسلامية من ناحية وبفعل الحرب الطويلة المدى، المنوعة الأساليب، التي أعلنها عليه أعداؤه من الوثنيين وأهل الكتاب سواء..
ولكن هذه ليست نهاية المطاف.. إن وعد الله قائم، ينتظر العصبة المسلمة، التي تحمل الراية وتمضي مبتدئة من نقطة البدء، التي بدأت منها خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل دين الحق ويتحرك بنور الله..
ثم يخطو السياق الخطوة الأخيرة في هذا المقطع من السورة، مصورًا كيف أن أهل الكتاب لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، بعد ما أشار إلى هذه الحقيقة في قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} التي فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم «أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم». فبين أنهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ إنما يحرمون ما حرمه عليهم الأحبار والرهبان!
يخطو السياق الخطوة الأخيرة في بيان هذه الحقيقة مخاطبًا بها الذين آمنوا كاشفًا لهم في هذا الخطاب عن حقيقة أهل الكتاب: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.
وفي الآية الأولى استطراد في بيان دور الأحبار والرهبان الذين اتخذهم أهل الكتاب أربابًا من دون الله، فاتبعوهم فيما يشرعون لهم من المعاملات ومن العبادات سواء. فهؤلاء الأحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلهم قومهم أربابًا تتبع وتطاع؛ وهم فيما يشرعون يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.
وأكل أموال الناس كان يتمثل في صور شتى وما يزال:
منها ما يأخذونه على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال لصالح من يملكون المال أو السلطان. ومنها ما يأخذه القسيس أو الكاهن مقابل الاعتراف له بالخطايا وغفرانه- بالسلطان المخول للكنيسة في زعمهم- لتلك الخطايا! ومنها الربا- وهو أوسع أبوابها وأبشعها- وغيرها كثير.
كذلك ما يجمعونه من أموال الناس لمحاربة دين الحق؛ وقد كان الرهبان والأساقفة والكرادلة والبابوات يجمعون مئات الملايين في الحروب الصليبية، وما يزالون يجمعونها للتبشير والاستشراق للصد عن سبيل الله.
ولابد أن نلحظ الدقة القرآنية والعدل الإلهي في قول الله تعالى في ذلك.